لعل من الأخطاء الشائعة عند الكثير أن معاوية نازع علياً (رضي الله عنه) في شأن الخلافة . ومنشأ هذه الشبهة روايات موضوعة لا يتسع المقام هنا للكلام فيها . وحقيقة الأمر أن الخلاف بينمها كان بسبب مسألة القصاص من قتلة عثمان (رضي الله عنه) ؛ فمعاوية ، وهو يرى أنه أولى الناس بدم عثمان لقول الله (عز وجل) : {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء : 33] ، ومن وراءه أهل الشام ، كانوا يرون أن يقتص علي (رضي الله عنه) من قتلة عثمان ، ثم يدخلون في بيعته ، بينما كان أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) يرى دخولهم في بيعته قبل القصاص .
وقد تبلورت هذه الرؤية عند معاوية وأهل الشام منذ أن جاءه النعمان بن بشير (رضي الله عنه) بقميص عثمان وأصابع زوجته نائلة (رضي الله عنهما) ، حيث وضعه على المنبر ليراه الناس ، ومن ثَمّ ندب معاويةُ – ووافقه بعض الصحابة – الناسَ للقصاص من قتلة عثمان .
وجاء في بعض الآثار عن أبي أمامة الباهلي وأبي الدرداء أنهما دخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية ، علام تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً ، وأقرب منك إلى رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ، وأحق بهذا الأمر منك . فقال : أقاتله على دم عثمان ، وإنه آوى قتلته ؛ فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان ، ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام [1].
وفي رواية قال : إني لست أزعم أني أحق بهذا الأمر منه ، وإني لأعلم أن علياً لكما وصفتما ، ولكني أقاتله حتى يدفع إلي قتلة عثمان ، فإذا فعل ذلك : كنت أنا رجلاً من المسلمين أدخل فيما دخل فيه الناس [2]. وفي رواية أن علياً (رضي الله عنه) بعث بجرير بن عبدالله برسالة لمعاوية ، فلما انتهى إليه جرير وأعطاه الكتاب : طلب معاويةُ عمرَو بن العاص ورؤوسَ أهل الشام ، فاستشارهم ، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان ، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان ، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) [3].
وستأتي روايات أخرى في الباب .
وعلي (رضي الله عنه) أبعد الناس عن قتل عثمان (رضي الله عنه) . فلما أرسل معاوية رسولاً إلى علي بن أبي طالب ، قال له : لقد تركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون على قميص عثمان ، وهو منصوب لهم ، وقد ألبسوه منبر دمشق ؛ فقال علي : مني يطلبون دم عثمان ؟! ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله [4].
وعلى هذا قول علماء المسلمين .
يقول الجويني (رحمه الله) : إن معاوية ، وإن قاتل علياً ، فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه ، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظناً منه أنه مصيب ، وكان مخطئاً [5].
وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : إن معاوية لم يدّع الخلافة ، ولم يبايَع له بها ، حتى قُتل علي ؛ فلم يقاتل على أنه خليفة ، ولا أنه يستحقها ، وكان يقر بذلك لمن يسأله [6].
ويقول ابن حجر الهيتمي : أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة ، ويتحقق التمكن من الأمور فيها على وجهها ، ويتم له انتظام شملها ، واتفاق كلمة المسلمين ، ثم بعد ذلك يلتقطهم واحداً فواحداً ، ويسلمهم إليهم . ويدل لذلك أن بعض قتلته عزم على الخروج على علي ومقاتلته لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان ؛ وأيضاً ، فالذين تمالؤوا على قتل عثمان كانوا جموعاً كثيرة .. جمع من أهل مصر- قيل سبعمائة ، وقيل ألف ، وقيل خمسمائة ؛ وجمع من الكوفة ، وجمع من البصرة ، وغيرهم ؛ قدموا كلهم المدينة ، وجرى منهم ما جرى ؛ بل ورد أنهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف ؛ فهذا هو الحامل لعلي (رضي الله عنه) على الكف عن تسليمهم ، لتعذره كما عرفت . ويحتمل أن علياً (رضي الله عنه) رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله [7].
وقال ابن خلدون : ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي ، أو لإيثار باطل ، أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم ، وينزع إليه ملحد ؛ وإنما اختلف اجتهادهم في الحق ، وسفّه كل واحد نظر صاحبه في اجتهاده في الحق ، فاقتتلوا عليه ، وان كان المصيب علياً ، فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل ، وإنما قصد الحق وأخطأ ، والكل كانوا في مقاصدهم على حق [8].
وعلى هذا سار المحققون من العلماء ، وهذا هو الذي ينبغي أن يُعتقد في معاوية الذي قال : والله لا أخير بين أمرين ، بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه ؛ وإني لعلى دين يُقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات ، ويُجزى فيه بالذنوب ، إلا أن يعفو الله عنها [9].
نعم ، الحق الذي نراه : أن طالب الدم عليه أن يدخل في الطاعة ثم يقيم الدعوى ؛ ولعل أقل أحوال معاوية أنه اجتهد في ذلك وتأول ، ويشهد على ذلك قوله فيما قال بعد مقتل عثمان : أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان . فقال أهل الشام بأجمعهم : بل نطلب بدمه ، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه ، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم ، أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم قبل ذلك [10].
وأمر اجتهاده ومن معه من أهل الشام معلوم حتى عند أصحاب علي (رضي الله عنه) ؛ فهذا عمار بن ياسر يقول يوم صفين : لا تقولوا ذلك – أي كفر أهل الشام – ، نبينا ونبيهم واحد ، وقبلتنا وقبلتهم واحدة ، ولكنهم قوم مفتونون ، جاروا عن الحق ؛ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه [11].
وبهذا تتضح حقيقة الخلاف بينهما ، رضي الله عنهما . فمعاوية أبداً لم يكن يرى نفسه أفضل من علي حتى ينازعه خلافة المؤمنين ؛ وعلى ذلك شواهد من التاريخ ذكرتها كتب الإمامية ؛ ولا بأس من نقل بعضها على علاتها .
فعن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع علياً في الخلافة ، أَوَأنت مثله ؟! قال : لا ، وأني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟ وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه ، فأتوا علياً فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان . فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي ؛ فامتنع معاوية [12].
وعن الخولاني أيضاً قال : يا معاوية ، علام تقاتل علياً ، وليس لك مثل صحبته ، ولا هجرته ، ولا قرابته ، ولا سابقته ؟! قال لهم : ما أقاتل علياً وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ، ولا هجرته ، ولا قرابته ، ولا سابقته ؛ ولكن خبرّوني عنكم ؛ ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟ قالوا : بلى . قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به ، ولا قتال بيننا وبينه [13].
وكان معاوية يرسل أناساً يسألون علياً (عليه السلام) عن المشكلات – سواءً معضلاته أو معضلات غيره – فكان علي (عليه السلام) يجيبه ؛ فقال أحد بنيه : تجيب عدوك ؟! فقال (عليه السلام) : أما يكفينا أن احتاجنا وسألنا ؟! [14].
وروي أن رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال : اسأل عنها علياً (عليه السلام) فهو أعلم . فقال : يا أمير المؤمنين ! جوابك فيها أحب إلي من جواب علي . قال معاوية : بئس ما قلت ، لقد كرهت رجلاً كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغرّه بالعلم غراً ، ولقد قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ؛ وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه ، ويلجأ إلى علي في حل مسائله . ثم قال معاوية للرجل : قم لا أقام الله رجليك ، ومحا اسمه من الديوان . وفي رواية : ولقد كان عمر يسأله ويأخذ عنه ، ولقد شهدته إذا أشكل عليه شيء قال : ههنا علي ، قم لا أقام الله رجليك [15].
وكتب إليه – أي معاوية – ملك الروم : إن أجبتني عن هذه المسائل حملت إليك الخراج ، وإلا حملت أنت ؛ فلم يدر معاوية ، فأرسلها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأجاب عنها [16].
ومر معاوية بن أبي سفيان بالمدينة ، فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن عباس ؛ فالتفت إلى عبدالله بن عباس فقال : يا ابن عباس ! إنك لم تعرف حقنا من باطل غيرنا … وقرّعه ابن عباس بجواب ، فحار منه معاوية فتركه ؛ وأقبل على سعد فقال : يا أبا إسحاق ! أنت الذي لم يعرف حقنا وجلس ، فلم يكن معنا ولا علينا . فقال سعد : فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام) : «أنت مع الحق ، والحق معك حيثما دار» . فقال معاوية : لتأتيني على هذا ببينة . فقال سعد : هذه أم سلمة تشهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فقاموا جميعاً ، فدخلوا على أم سلمة ، فقالوا : يا أم المؤمنين ! إن الأكاذيب قد كثرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهذا سعد يذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم نسمعه ؛ أنه قال لعلي : «أنت مع الحق والحق معك حيثما دار». فقالت أم سلمة : في بيتي هذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام). فقال معاوية لسعد : يا أبا إسحاق ! ما كان ألوم الآن – أي : إنك يا سعد ألوم الناس عندي – إذ سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجلست عن علي (عليه السلام) . لو سمعتُ هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنت خادماً لعلي حتى أموت . وفي رواية : فإني لو سمعت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعلي (عليه السلام) ما عشت [17].
وسأل معاوية يوماً جلساءه : من أكرم الناس أباً وأماً ، وجداً وجدةً ، وعماً وعمةً ، وخالاً وخالةً ؟ فقالوا : أنت أعلم . فأخذ معاوية بيد الحسن بن علي (رضي الله عنه) وقال : هذا ! أبوه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجدته خديجة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعمه جعفر ، وعمته هالة بنت أبي طالب ، وخاله القاسم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وخالته زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) [18].
وعن ضرار بن ضمرة ، وهو من أصحاب علي (عليه السلام) وشيعته : أنه دخل ذات يوم على معاوية ، وكان ذلك بعد شهادة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . فقال معاوية لضرار بن ضمرة : صف لي علياً . فقال ضرار : أوَتعفيني ؟ قال : بل صفه . قال : أوَتعفيني ؟ قال : لا أعفيك . فبدأ ضرار بذكر فضائل الإمام وخلقه وأدبه ؛ ثم قال : وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا يا دنيا ! إليك عني ، أبي تعرضت ؟ أم إليّ تشوقت ؟ لا حان حينك ؛ هيهات هيهات ، غُرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ؛ فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير . آه من قلة الزاد ، وطول الطريق ، وبعد السفر ، وعظيم المورد . فذرفت دموع معاوية حتى خرت على لحيته ، فما يملكها وهو ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ؛ ثم قال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك [19].
وقال القرطبي معلقاً : وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي (رضي الله عنه) ومنزلته ، وعظم حقه ومكانته ؛ وعند ذلك يبعد على معاوية أن يصرح بلعنه وسبه ، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين والحلم وكرم الأخلاق ، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح [20].
وروي أن أجور التميمي قدم على معاوية بن أبي سفيان وقال : يا أمير المؤمنين ! جئتك من عند ألأم الناس ، وأبخل الناس ، وأعيى الناس ، وأجبن الناس – يقصد بذلك علياً (عليه السلام) . فقال له معاوية : ويلك ! وأنى أتاه اللؤم ، وكنا نتحدث أن لو كان لعلي (عليه السلام) بيت من تبن وآخر من تبر لأنفد التبر قبل بيت التبن ؟! وأنى له العي ، وإن كنا نتحدث أنه ما جرت المواسي على رأس رجل من قريش أفصح من علي (عليه السلام) ؟! ويلك ، وأنى أتاه الجبن وما برز له رجل قط إلا صرعه ؟! والله يا بن أجور ، لولا الحرب خدعة لضربت عنقك ، اخرج فلا تقيمن في بلدي [21].
وعن جابر قال : كنا عند معاوية ، فذكر علي (عليه السلام) فأحسن ذكره وذكر أبيه وأمه ، ثم قال : وكيف لا أقول هذا لهم ، وهم خيار خلق الله وعترة نبيه ، أخيار أبناء أخيار [22].
وسأل معاوية عقيلاً عن قصة الحديدة المحماة ، فبكى عقيل وقال : أنا أحدثك يا معاوية عنه ! ثم أحدثك عما سألت . نزل بالحسين (عليه السلام) ابنه ضيفاً ، فاستسلف درهماً اشترى به خبزاً ، واحتاج إلى الإدام ، فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقاً من زقاق العسل جاءتهم من اليمن ، فأخذ منه رطلاً ؛ فلما طلبها علي (عليه السلام) ليقسمها قال : يا قنبر ! أظن أنه حدث بهذا الزق حدث ، فأخبره . فغضب (عليه السلام) وقال : عَلَيّ بالحسين ، فرفع عليه الدرة . فقال الحسين (عليه السلام) : بحق عمي جعفر – وكان علي (عليه السلام) إذا سئل بحق جعفر سكن – . فقال له : فداك أبوك ؛ وإن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم ! أما لولا أني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبّل ثنيتك لأوجعتك ضرباً . ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه وقال : اشتر به خير عسل تقدر عليه . قال عقيل : والله لكأني أنظر إلى يدي علي (عليه السلام) وهي على فم الزق ، وقنبر يقلب العسل فيه ، ثم شده وجعل يبكي ويقول : اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم . فقال معاوية : ذكرت من لا ينكر فضله ، رحم الله أبا حسن ! فلقد سبق من كان قبله ، وأعجز من يأتي بعده ! هلم حديث الحديدة . قال عقيل : نعم . أقويت (أي أصابني الفقر) وأصابتني مخمصة شديدة ، فسألته فلم تند صفاته ، فجمعت صبياني وجئته بهم والبؤس والضر ظاهران عليهم . فقال (عليه السلام) : ائتني عشية لأدفع إليك شيئاً ؛ فجئته يقودني أحد ولدي ، فأمره بالتنحي ، ثم قال : ألا فدونك ؛ فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع أظنها صرة ؛ فوضعت يدي على حديدة تلتهب ، فلما قبضتها نبذتها ، وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره . فقال (عليه السلام) : ثكلتك أمك ! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه ، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه ! أتئن من الأذى ولا تئن من لظى ؟ ثم قرأ : {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر : 71]. ثم قال : ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى ، فانصرف إلى أهلك . فجعل معاوية يتعجب من هذه الحكاية ويقول : هيهات هيهات ! عقمت الأمهات أن يلدن مثله [23].
وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل له علياً (عليه السلام) عن ذلك ، فلما بلغه قتله قال : ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب (عليه السلام) . فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام . فقال له : دعني عنك [24].
ولما جاء نعيه (عليه السلام) إلى معاوية : استرجع ، وكان قائلاً مع امرأته فاختة بنت قرظة نصف النهار في يوم صائف ، فقعد باكياً وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا فقدوا من العلم ؟ فقالت له امرأته : تسترجع عليه اليوم وتبكي وأنت تطعن عليه بالأمس ؟! فقال : ويحك ! لا تدرين ما ذهب من علمه وفضله وسوابقه ، وما فقد الناس من حلمه وعلمه [25].
فهذه بعض النقول من كتب الإمامية وغيرها كثير .
والذي سبق يقودنا إلى شبهة سب معاوية لعلي (رضي الله عنهما) ، الأمر الذي يمجه عقل من عرف عن معاوية الحلم والفضل ، وثناء أضرابه ومن جاء بعدهم له ، وإن صدر عن البعض فيقيناً ليس بإيعاز منه ، ولم يجتمع عليه الناس ، بدلالة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة » [26]. هذا فضلاً عن أن المنتصر لا يحتاج إلى مثل هذا ، بمعنى أن معاوية بعد أمير المؤمنين والحسن (رضي الله عنهم أجمعين) كان هو الحاكم ، فأي حاجة له لمثل هذا! ؟
فالروايات في هذا الباب لا يصح منها شيء . نعم جاء في صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ فقال: أما ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبه ؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم . سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له ، خلفه في مغازيه ، فقال له علي : يا رسول الله ، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوة بعدي» ؛ وسمعته يقول يوم خيبر : «لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله» ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : «ادعوا لي علياً» ؛ فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران : 61] ؛ دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ؛ فقال : «اللهم هؤلاء أهلي».
قال النووي (رحمه الله) : قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب . كأنه يقول : هل امتنعت تورعاً ، أو خوفاً ، أو غير ذلك ؛ فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فأنت مصيب محسن ، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر . ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم ، وعجز عن الإنكار ، أو أنكر عليهم ، فسأله هذا السؤال [27].
وقال القرطبي (رحمه الله) : قوله لسعد بن أبي وقاص : ما يمنعك أن تسب أبا تراب ؟ وهذا ليس بتصريح بالسب ، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك ، أو من نقيضه ، كما قد ظهر من جوابه . ولما سمع ذلك معاوية سكت وأذعن ، وعرف الحق لمستحقه [28].
ولا يعرف بنقل صحيح أن معاوية تعرض لعلي بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته ، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته ؟! ثم أن معاوية انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي له ، واجتمعت عليه الكلمة والقلوب ، ودانت له الأمصار بالملك ، فأي نفع له في سب علي ؟ [29] ؛ والكلام في هذه الشبهة يطول ، وليس هنا مكانه .
ومما يدل على خلاف هذه الفرية : العلاقة الحميمة التي كانت تربط معاوية بالسبطين وسائر أهل البيت (رضي الله عنهم أجمعين) . فقد جاءت آثار كثيرة في ذلك ، وقد مر بعضها ، وإليك المزيد :
عن عبد الله بن بريدة ؛ قال : قدم الحسن بن علي على معاوية فقال له : لأجيزنك بجائزة لم يجزها أحد كان قبلي ، فأعطاه أربعمائة ألف ألف .
ووفد إليه مرة الحسن والحسين فأجازهما على الفور بمائتي ألف ؛ وقال لهما : ما أجاز بهما أحد قبلي . فقال له الحسين : ولم تعط أحداً أفضل منا .
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا يوسف ابن موسى ثنا جرير عن مغيرة ؛ قال : أرسل الحسن بن علي وعبدالله بن جعفر إلى معاوية يسألانه المال ، فبعث إليهما – أو إلى كل منهما – بمائة ألف ؛ فبلغ ذلك علياً فقال لهما : ألا تستحيان ؟! رجل نطعن في عينه غدوة وعشية تسألانه المال ؟ فقالا : بل حرمتنا أنت وجاد هو لنا .
وروى الأصمعي قال : وفد الحسن وعبدالله بن الزبير على معاوية ، فقال للحسن : مرحباً وأهلاً بابن رسول الله ، وأمر له بثلاثمائة ألف ؛ وقال لابن الزبير : مرحباً وأهلاً بابن عمة رسول الله ، وأمر له بمائة ألف .
وقال أبو مروان المرواني : بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف فقسمها على جلسائه – وكانوا عشرة – فأصاب كل واحد عشرة آلاف . وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف فاستوهبتها منه امرأته فاطمة فأطلقها لها .
وقال ابن دآب : كان لعبدالله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف ، ويقضي له معها مائة حاجة ؛ فقدم عليه عاماً فأعطاه المال وقضى له الحاجات ، وبقيت منها واحدة ؛ فبينما هو عنده : إذ قدم أصبغهند سجستان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد ، ووعد من قضى له هذه الحاجة من ماله ألف ألف ؛ فطاف على رؤوس الاشهاد والأمراء من أهل الشام وأمراء العراق ، ممن قدم مع الأحنف بن قيس ، فكلهم يقولون : عليك بعبدالله بن جعفر ؛ فقصده الدهقان ، فكلم فيه ابن جعفر معاوية ، فقضى حاجته تكملة المائة حاجة ، وأمر الكتاب فكتب له عهده ، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان فسجد له ، وحمل إليه ألف ألف درهم ؛ فقال له ابن جعفر : اسجد لله ، واحمل مالك إلى منزلك ، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن . فبلغ ذلك معاوية فقال : لأن يكون يزيد قالها أحب إلي من خراج العراق ، أبت بنو هاشم إلا كرماً .
وكان لعبدالله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف ، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف ، فألح عليه غرماؤه ، فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية فيسأله أن يسلفه شيئا من العطاء ؛ فركب إليه فقال له : ما أقدمك يا ابن جعفر ؟ فقال : دَيْن ألح علي غرماؤه ؛ فقال : وكم هو ؟ قال : خمسمائة ألف . فقضاها عنه ، وقال له : إن الألف ألف ستأتيك في وقتها .
وقال أبو الحسن المدايني عن سلمة بن محارب قال : قيل لمعاوية : أيكم كان أشرف ، أنتم أو بنو هاشم ؟ قال : كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف ، فيهم واحد لم يكن في بني عبدمناف مثل هاشم ؛ فلما هلك : كنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ؛ وكان فيهم عبدالمطلب ولم يكن فينا مثله ، فلما مات : صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً ؛ ولم يكن فيهم واحد كواحدنا ؛ فلم يكن إلا كقرار العين ، حتى قالوا : منا نبي ؛ فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله ، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف ؟ [30] ؛ وغيرها كثير .
وكذلك حال آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع معاوية ، فقد جاء عنهم ما يؤكد ما مر من طرق الإمامية الكثير ، وهذه بعضها :
عن الباقر (عليه السلام) ، عن أبيه : أن علياً (عليه السلام) كان يقول لأهل حربه : إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ، ولم نقاتلهم على التكفير لنا ، ولكنا رأينا أنا على حق ، ورأوا أنهم على حق [31].
وعن الباقر أيضاً عن أبيه (عليهم السلام) قال : إن علياً (عليه السلام) لم يكن ينسب أحداً من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى النفاق ، ولكن كان يقول : إخواننا بغوا علينا [32].
وعن علي (عليه السلام) في كتاب كتبه إلى أهل الأمصار يقتص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين ، قال : وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام ، والظاهر أن ربنا واحد ، ونبينا واحد ، ودعوتنا في الإسلام واحدة ؛ لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله (صلى الله عليه وآله) ولا يستزيدوننا . الأمر واحد ، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء [33].
وكان يكره لإصحابة أن يشتموا أهل الشام ؛ فعن عبدالله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما علي : أن كُفّا عما يبلغني عنكما ؛ فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقين ؟ قال : بلى . قالا : أوليسوا مبطلين ؟ قال : بلى . قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرأون . ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم : من سيرتهم كذا وكذا ، ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر . ولو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إليّ وخيراً لكم . فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك [34].
وأمثال هذه الروايات عن أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) واضحة الدلالة على إيمان أهل الشام . وقد جاء عنه أيضاً (رضي الله عنه) أنه قال : والقتال قتالان : قتال الفئة الكافرة حتى يسلموا ، وقتال الفئة الباغية حتى يفيئوا [35].
وكذلك كان هذا موقفه من قتلى الجمل – وفي رواية الخوارج – ، حيث جاء من طرق الإمامية أيضاً عن علي (عليه السلام) : أنّه سُئل عن قتلى الجمل : أمشركون هم ؟ قال : لا ، بل من الشرك فرّوا . قيل : فمنافقون ؟ قال : لا ، إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلا . قيل : فما هم ؟ قال : اخواننا بغوا علينا فنُصِرنا عليهم [36].
لذا كان يختم رسائله لمعاوية (رضي الله عنهما) بـ “والسلام” وليس اللعن [37].
___________________________________________________
ملاحظة : للوقوف على المصادر ومواطن العزو ، يرجى تنزيل رسالة : صلح الحسن