لا شك أن موقف الحسن (رضي الله عنه) من الصلح مع معاوية لم يرضِ أصحاب الأطماع والفتن ، وكان له معهم صولات وجولات سطرتها كتب التاريخ ، نذكر منها :
أن الحسن (رضي الله عنه) قام في أهل العراق ، فقال : يا أهل العراق ، إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث : قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي ؛ ودخل الناس في طاعة معاوية ، ودخل معاوية الكوفة ، فبايعه الناس [60].
وقال (رضي الله عنه) : إني رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم ؛ وما اغتر بهم إلا من ذل ؛ ليس أحد منهم يوافق رأي الآخر ؛ ولقد لقي أبي منهم أموراً صعبة وشدائد مرة ؛ وهي أسرع البلاد خراباً [61].
وقال (رضي الله عنه) : ولكني عرفت أهل الكوفة ، وبَلَوْتهم ، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً . إنهم لا وفاء لهم ، ولا ذمة في قول ولا فعل . إنهم لمختلفون ، ويقولون لنا أن قلوبهم معنا ، وإن سيوفهم لمشهورة علينا [62].
وعن زيد بن وهب الجهني قال : لما طعن الحسن بن علي (عليه السلام) بالمدائن ، أتيته وهو متوجع ، فقلت : ما ترى يا بن رسول الله ، فإن الناس متحيرون ؟ فقال : أرى – والله – أن معاوية خير لي من هؤلاء ، يزعمون أنهم لي شيعة ؛ ابتغوا قتلي ، وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي . والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي ، وآمن به في أهلي ، خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي . والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً [63].
وقال (رضي الله عنه) بعد وفاة أبيه : أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة ، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة ، والصبر بالجزع ؛ وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم ، فكنا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا ، ثم أصبحتم تعدون قتيلين : قتيلاً بصفين تبكون عليه ، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره ؛ فأما الباكي فخاذل ، وأما الطالب فثائر [64].
وقد جرح الحسن غيلة في “مطلع ساباط” ، جرحه سنان بن الجراح الأسدي ، أخو بني نصر ، فطعنه في فخذه بمعول طعنة منكرة ؛ وكان يرى رأي الخوارج ؛ فاعتنقه الحسن في يده ، وصار معه في الأرض ، ووثب عليه عبدالله بن ظبيان بن عمارة التميمي ، فعض وجهه حتى قطع أنفه وشدخ رأسه بحجر ، فمات من وقته ؛ فسحقاً لأصحاب السعير . وحُمل الحسن على السرير إلى المدائن ، فنزل على سعد ابن مسعود الثقفي ، عم المختار ، وكان عامل علي (رضي الله عنه) على المدائن ؛ فجاءه بطبيب فعالجه حتى صلح (رضي الله عنه) [65].
ذكر الأصبهاني : سار عبيدالله حتى انتهى إلى “شينور” حتى خرج إلى “شاهي” ثم لزم الفرات والفالوجة حتى أتى “مسكن” وأخذ الحسن إلى “حمام عمر” حتى أتى “دير كعب” ثم “بكر” فنزل “ساباط” دون “القنطرة” ، فلما أصبح نادى في الناس : الصلاة جامعة ؛ فاجتمعوا وصعد المنبر ، فخطبهم فحمد الله ، فقال : الحمد لله كلما حمده حامد ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، أرسله بالحق ، وائتمنه على الوحي ، صلى الله عليه وآله ؛ أما بعد : فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة . ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا علي رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا . قال : فنظر الناس بعضهم إلى بعض ، وقالوا : ما ترونه يريد بما قال ؟ قالوا : نظنه – والله – يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه . فقالوا : كفر – والله – الرجل ؛ ثم شدوا على فسطاطه ، فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ، ثم شد عليه عبد الرحمن ابن عبدالله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه ، فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء ، ثم دعا بفرسه فركبه ، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ، ومنعوا منه من أراده ولاموه وضعفوه لما تكلم به ؛ فقال : ادعوا لي ربيعة وهمدان ، فدعوا له ، فأطافوا به ، ودفعوا الناس عنه ومعهم شوب من غيرهم ، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان ، فلما مر في “مظلم ساباط” قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول فقال : الله أكبر يا حسن ، أشركت كما أشرك أبوك من قبل ؛ ثم طعنه ، فوقعت الطعنة في فخذه ، فشقته حتى بلغت أربيته ، فسقط الحسن إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه وخرّا جميعاً إلى الأرض ؛ فوثب عبدالله بن الخطل ، فنزع المعول من يد الجراح بن سنان ، فخضخضه به ، وأكب ظبيان ابن عمارة عليه ، فقطع أنفه ؛ ثم أخذوا الآجر ، فشدخوا وجهه ورأسه حتى قتلوه . وحُمل الحسن على سرير إلى المدائن وبها سعد بن مسعود الثقفي والياً عليها من قبله ، وكان علي ولاه فأقره الحسن بن علي ، فأقام عنده يعالج نفسه [66].
ويقول المسعودي : وقد كان أهل الكوفة انتهبوا سُرَادق الحسن ورحله ، وطعنوا بالخنجر في جوفه ، فلما تيقن ما نزل به انقاد إلى الصلح [65].
وذكر المجلسي : كتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية : فإنا معك ، وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك ؛ ثم أغاروا على فسطاطه ، وضربوه بحربة ، وأُخذ مجروحا [66].
وقال المفيد : كتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السر ، واستحثوه على السير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن (عليه السلام) إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به ، وبلغ الحسن ذلك [67].
وخرج الحسن حتى نزل في القصور البيض في المدائن ، وخرج معاوية حتى نزل “مسكن” ، وكان على المدائن عم المختار بن أبي عبيد ، وكان يقال له سعد بن مسعود ؛ فقال له المختار – وهو يومئذ غلام شاب – : هل لك في الغنى والشرف ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : توثق الحسن وتستأمر به إلى معاوية ؛ فقال له سعد : عليك لعنة الله ؛ أأثب على ابن ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوثقه ؟! فلما رأى الحسن تفرق الناس عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح [68].
وسنأتي على ذكر المزيد من خذلان هؤلاء لأئمتهم وذم الأئمة (رحمهم الله) لهم .
___________________________________________________
ملاحظة : للوقوف على المصادر ومواطن العزو ، يرجى تنزيل رسالة : صلح الحسن