من أكثر الأمور التي يضرب بها المثل في شأن التعامل مع الناس ومداراتهم وأخذهم بالحكمة والحنكة هو ما يسمى بـ “شعرة معاوية” ؛ فيقول المرء متمثلاً بها : “اجعل بينك وبينهم شعرة معاوية” ، أي : تصرف معهم بالكياسة وبُعد النظر حتى تحتويهم فينقادوا لك .و”شعرة معاوية” هذه ترسّخ لمبدأ عظيم وأصل وطيد من أصول الحنكة السياسية ، وقد أرسى قواعدها معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) ، وكانت إحدى مظاهر وفور عقله وغزارة فكره وشدة دهائه الذي عُرف به بين العرب ، حتى عدّه الناس من أدهى دهاة العرب عبر التاريخ .
دهاء معاوية بن أبي سفيان
يُعرف معاوية بن أبي سفيان بأنه من أدهى من عرفته العرب ؛ فقد قيل إن أعظم دهاة العرب أربعة : معاوية بن أبي سفيان ، وزياد بن أبيه ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة . وهذا الدهاء الشديد الذي كان يتصف به معاوية خوّله لأن يحكم بلاداً مترامية الأطراف ، خاصة بعد صلحه مع الحسن بن علي (رضي الله عنهما) ، وقد كانت هذه البلاد تعاني الكثير من الفتن والاضطرابات والنزاعات والاختلافات بشتى الأصناف والوجوه ؛ فاستطاع بفضل دهائه الذي وهبه الله (عز وجل) له ، وبعد توفيق من الله (تعالى) ، أن يُدخل الناس في ولايته ، وأن يكونوا طوع أمره ، فاستتب له الحكم لعشرين سنة ، واستوسق له أمر العامة والخاصة لا ينازعه على مُلكه أحد .
بعض مواقف دهائه
هذه بعض المواقف الدالة على دهائه ، نعرضها لمجرد الاستشهاد على هذا الأمر وليس غرضنا فيها حصرها في هذا الموضع .
الموقف الأول : استأذن رجل على معاوية ، فقال للحاجب : قل له على الباب أخوك لأبيك وأمك ؛ فقال معاوية لحاجبه : ما أعرف هذا ، ائذن له ! فدخل ، فقال له : أي الإخوة أنت ؟ قال : ابن آدم وحواء ؛ فقال : يا غلام ، أعطه درهماً ؛ فقال : تعطي أخاك لأبيك وأمك درهماً ؟! فقال : لو أعطيت كل أخ لي من آدم وحواء ما بلغ إليك هذا .
الموقف الثاني : يُذكر أن عمر بن الخطاب قَدِم الشام على حِمار ومعه عبدُالرحمن بن عوف على حِمار ؛ فتلقاهما معاويةُ في موكب نبيل ؛ فجاوز عمرَ حتى أُخبر ، فرجع إليه ، فلما قَرُب منه نزل فأعرض عنه عمر ، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً . فقال له عبدُالرحمن بن عوف : أتعبتَ الرجل ! فأقبل عليه عمر فقال : يا معاوية ، أنت صاحبُ الموكب آنفاً ، مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك ؟! قال : نعم يا أمير المؤمنين . قال : ولم ذلك ؟ قال : لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ ، فلا بُدّ لهم مما يُرهبهم من هيبة السلطان ؛ فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه ، وإن نهيتني عنه انتهيت . قال : لئن كان الذي قلتَ حقا فإنه رأيُ أريب ، ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة ؛ ولا أمرك به ولا أنهاك عنه . فقال عبدُالرحمن بن عوف : ما أحسن ما صدر الفتى عمّا أوردته فيه . قال عمر : لحسن موارده ومصادره جشّمناه ما جشمناه .
الموقف الثالث : سأل معاوية ابنه يزيد : لو سألك سائل يا يزيد فقال : من قومك ؟ ماذا تقول له ؟ قال : أقول له : سلاماً ! قال أحسنت . يريد بذلك قوله (تعالى) : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}
حنكة معاوية السياسية وتأسيسه لمبدأ “شعرة معاوية”
ذكرنا أن معاوية (رضي الله عنه) رجل محنّك سياسياً وقد استطاع أن يُلجم شعوباً مختلفة المشارب والأعراق ، تكثر فيها النزاعات والفتن ، وأن يخضعها جميعاً تحت سلطان حُكمه كما لم يستطع أحد من قبله ولا بعده .
قال ابن عمر (رضي الله عنهما) : ما رأيت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسود من معاوية . قيل : ولا عمر ؟ قال : كان عمر خيراً منه ، وكان هو أسود من عمر . // و”أسود” اسم التفضيل من الـ “سيادة” .
وقال قبيصة بن جابر : ما رأيت أحداً أعظم حلماً ، ولا أكثر سؤدداً ، ولا أبعد أناة ، ولا ألين مخرجاً ، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية .
وكان من حكمته وحُسن معرفته أنه كان عادلاً لا يظلم الناس ؛ فعن الأعمش أنه ذُكر عنده عمر بن عبدالعزيز وعدله ، فقال : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : يا أبا محمد ، يعني في حلمه ؟ قال : لا والله ، بل في عدله .
“شعرة معاوية” – أصل ركين من أصول السياسة الرشيدة
نذكر في هذا الفصل روايات عن معاوية (رضي الله عنه) وهو يصف أسلوبه في معاملة الناس ومعالجة أمورهم المشكلة ؛ وهو ما يمكننا أن نجعلها شرحاً منه وتفصيلاً لمبدأ “شعرة معاوية” التي اشتهر في الناس ذكرها .
يُروى عن معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) أن أعرابيًا سأله : يا أمير المؤمنين ، كيف حكمت الشام عشرين سنة أميرًا ، ثم حكمت بلاد المسلمين عشرين سنة خليفةً للمسلمين ؟ فقال معاوية (رضي الله عنه) : إني لا أضع لساني حيث يكفيني مالي ، ولا أضع سَوْطي حيث يكفيني لساني ، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سَوْطي ؛ فإذا لم أجد من السيف بُدّاً ركبتُهُ ؛ ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ؛ كانوا إذا مدّوها أرخيتها ، وإذا أرخوها مددتها .
وروي أنه طلب زياد رجلاً لمحاكمته ، فهرب منه ولاذ بأمير المؤمنين معاوية ، واحتمى به ؛ فكتب زياد إلى معاوية يقول له : إن هذا فسادٌ لعملي إذا طلبتُ أحداً لجأ إليك ولاذ بك ! فأجابه معاوية : يا زياد ، إنه لا ينبغي لنا أن نسوس الناس بسياسة واحدة ، فيكون مقامنا مقام رجل واحد ؛ لكن لتكن أنت للشدة والخشونة ، ولأكن أنا للرحمة والرأفة فيستريح بها الناس . فـسكت زياد وقال : ما غلبني معاوية إلا في هذه .